نعم إنه
يومٌ عامرٌ بالحماس والخبرة وصدق المشاعر، كنت محظوظ أن قضيته مع المهندس عامر
برقان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
قررت أن
اكتب هذ المقال لتعميم الفائدة التي استقيتها من معين
خبرات المهندس عامر والذي كان له أثر كبير جداً في حياتي المهنية، نعم إنه يومٌ
واحدٌ فقط ولكنه مع إنسان لم أعرفه إلا في هذا اليوم واستمرت كلماته ترن في أذني
وتهز كياني خلال العشرين سنة الماضية.
بدأت
العمل في صناعة الاسمنت مدير مشاريع تحت إدارة لجنة مشاريع من مجلس الإدارة والتي
طلب أحد أعضائها (المهندس/سعد المعجل) في إحدى الاجتماعات ضرورة زيارة شركة اسمنت
المنطقة الجنوبية للاطلاع على مشاريعهم التوسعية "ولازم تقابل عامر برقان،
كان عمي سعد المعجل يقول: مع احترامي لكم يا أهل الاسمنت ما في أحد يفهم في
الصناعة قد المهندس عامر برقان".
سافرت إلى
أبها وقابلت المهندس عامر والذي من الوهلة الأولى شعرت بارتياح شديد غمرني من
طلاقة الوجه وحسن الاستقبال والتواضع الجم رغم كثرة مشاغله وأصر أن يرافقني إلى
مصنع اسمنت جيزان.
أخبرته
في الطريق عن مسيرتي المهنية وأني انتقلت من العمل الحكومي إلى قطاع المقاولات ثم
إلى صناعة الاسمنت. التفت إليَّ وقال نصيحتي "كثرة التنقل ما تبني خبرة وكان الأمريكان في
أرامكو ينصحونا بالاستمرار في عمل واحد وعدم التنقل حتى بين الإدارات في شركة
واحدة. "لا أسمع أنك طلعت من
صناعة الاسمنت، فيها خير وما فيها سعوديين"، قالها بطريقة أب ناصح لابنه
وأثرت بي هذه النصيحة تأثير كبير عند مواجهة تحديات أو مشاكل، استحضر صورته ونبرة
صوته والتفاتته بحزم من كرسي السيارة الأمامي وأنا في الخلف، وكان لها أثر كبير في
أن أستمر في صناعة الاسمنت 17 سنة متواصلة.
وصلنا
المصنع واستقبلنا الكثير من المهندسين والفنيين وحتى العمال بحفاوة كبيرة، ويعرفهم
المهندس عامر رحمه الله أغلبهم بالاسم، لفت نظري أحد الفنيين الذي بدى عليه الحزن
ويغالب دموعه، فسألته عن السبب فقال بابا عامر صار (old
man) عرفت سبب الحفاوة التي استقبلنا بها موظفي
المصنع، استقبلوه كأب وليس كمدير عام.
استدعى
رحمه الله المهندس/أحمد مدخلي (مدير الإنتاج آنذاك) وطلب
منه أن يأخذني في جولة في المصنع قال للمهندس أحمد "اعطوه كل المعلومات ولا
تخبون عنه شيء أهم شي لا يأخذ المصنع معه، حق المساهمين".
ما
شاء الله تبارك الله كان المهندس أحمد موسوعة هندسية كيميائية تمشي على الأرض
والذي شرح تصنيع الاسمنت وكيميائية الاسمنت بمعادلاتها المعقدة بطريقة سهلة لا
يجيد تبسيطها إلا العارفين الأذكياء، ولفت نظري الحماس الشديد والاهتمام الشديد
ليس للمهندس أحمد فقط وإنما أغلب المهندسين والفنيين في المصنع.
عدنا
للمهندس عامر رحمه الله حيث بادرني بالسؤال كيف كانت الجولة مع أحمد؟ قلت مبهرة
والرجل موسوعة ما شاء الله عليه، قال ضاحكاً لا يضحك عليك ترى تخصصه جغرافيا،
والتفت إلى المهندس احمد ضاحكاً وطلب منه أن يحكي قصته مع المصنع، حكى احمد أنه
تخرج فعلاً بتخصص جغرافيا وتم تعيينه في مدرسة قريبة إلا أنه لم يستطع العمل كمدرس
ودخل المصنع وطلب مقابلة المهندس عامر رحمه الله وأن يعطيه فرصة للعمل في المصنع،
تمكن احمد مدخلي بذكائه الفطري أن يجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة وأن يجيد كيمياء
وهندسة تصنيع الاسمنت في وقت وجيز والذي أهله ليصبح مدير إنتاج متمكن ومدير مصنع
ومستشار فني للمدير العام لاحقاً. كان يحكي وقسمات وجه المهندس
عامر ( رحمه الله ) تعلوها غبطة عامرة
وكأني أرى غبطة أب يسمع قصة نجاح ابنه.
سألني
رحمه الله عن ملاحظاتي عن الجولة قلت أهنئك على فريق العمل المتحمس وكذلك أشيد
بجرأتكم وإقدامكم على عمل التعديلات الكثيرة في خط الإنتاج والتي ساهمت في رفع
الطاقة الإنتاجية للمصنع وتحديثه وتحقيق الأرباح العالية.
أُعجب
رحمه الله بالملاحظة وقال المصانع إذا "ما تجدد تموت" واعطي الصلاحيات
للمهندسين أن يدرسون ويتشاورون ويتفقون على التعديلات ويعملون المخططات لها وأوقع
معهم على خرائط التعديلات وأتحمل المسؤولية الكثير نجح والقليل لم يصب النتائج
المرجوة ولكنه منح الكثير من الثقة لمهندسي المصنع.استعرض
معي المخططات لتعديلات المبردة وتعديلات مطحنة المواد الخام بكل تفاصيلها، يشرحها
ببساطة رغم تعقيداتها.
سألته
رحمه الله عن معضلة التوسع في الإنتاج وبناء خطوط إنتاج جديدة في ظل كساد سوق
الاسمنت وكيف استطاع تبرير إنشاد مصنع بيشة رغم وجود مخزون كلنكر عالي في جيزان؟
أجاب
رحمه الله: صناعة الاسمنت في ازدياد ولا يجب أن يمنع ارتفاع وهبوط المخزون الذي
يتبع الدورة الاقتصادية التوسع المستقبلي الذي يحتاج إلى سنوات طويلة، التوسع في
بيشة ضرورة لتوفير موقع ثاني في السراة وتسهيل نقل الاسمنت والذي يعاني الناقلين
من طلوع العقبة، إذا لم نتوسع في بيشة سوف يتوسع غيرنا فيه.
طلبت
أن أزور محطة تصدير الكلنكر في ميناء جيزان فأصر رحمه الله إلا أن يرافقني، في
الطريق سألته رحمه الله عن التصدير ومدى جدواه فأجاب رحمه الله أن التصدير
"حق الناس للناس" بمعنى أن الكلنكر والاسمنت المصدر بالكاد يغطي
التكلفة، وقفنا على منصة تحميل السفينة والقلابات تصب فيها والسير الناقل يرفع
الكلنكر إلى أحواض السفينة وكان رحمه الله في قمة السعادة، سألت المهندس المتواجد
عن بعض المواصفات لجهاز التحميل فأجاب أنها اختيارية ولم نطلبها، اشتاط رحمه الله
غضباً من عدم إدراجها وتدخلت "ارقع اللقافة" إنها بسيطة وها هي المعدة
تشتغل زين.
ودعني
رحمه الله وكرر نصيحته "خلك في الاسمنت فيها خير كثير".
من جميل
القدر أنني عملت زيارة أخرى لمصنع المجاردة وهو المصنع الثالث الذي بناه رحمه الله
قبل وفاته وتمكنت اسمنت المنطقة الجنوبية من السيطرة الكاملة على سوق كبير جعلها
تحقق أرباح مليارية.
علمت
خلال الزيارة عن مرضه رحمه الله ودخوله المستشفى وتمكنت من زيارته والسلام عليه
قبل وفاته بيوم واحد.
أخيراً
كتبت هذا المقال شعوراً بالتقصير منا أبناء المنطقة الجنوبية تجاه رجال وقادة
مؤثرين مثل المهندس عامر برقان ( رحمة الله )والذي نجح نجاحاً باهراً في قيادة
وتطوير شركة اسمنت المنطقة الجنوبية من صفر التأسيس إلى مليارات الأرباح، من منطق
واقعي وليس تعصباً لمنطقة وإنما من مبدأ "اخدم نفسك" وإذا لم نذكر نحن
مناقب مثل المهندس عامر برقان رحمه الله فهل نتوقع أحد غيرنا يذكرها؟
أتمنى أن
يجمع أساتذة التاريخ سيرة هذا الرجل الذي من جميل تأثيره علي في يوم واحد استطعت
كتابة هذا المقال، فكيف بمسيرة حياته رحمه الله.